في بلد يُفترض أن يكون فيه التعليم مفتاحًا للمستقبل، يُصبح الحلم كابوسًا، وتُحوَّل الجامعة من منارة للعلم إلى سوق للوساطات والصفقات.
القضية التي تفجّرت مؤخرًا والمتعلقة بأستاذ جامعي كان يُدرّس في كلية الحقوق بأكادير، والمتهم بالتلاعب في لوائح الماستر ومنح شهادات مقابل المال، ليست مجرد حادث معزول. إنها نتيجة حتمية لمنظومة تآكلت من الداخل، حيث لم يعد التفوق الدراسي معيارًا، بل حجم “العطايا” والعلاقات هو ما يحدد مستقبلك.
لكن بعيدًا عن هذا الأستاذ، دعونا نتحدث عن الطالب البسيط…
عن ذاك الشاب الذي يغادر قريته في الجبل أو البادية، حاملاً حقيبة صغيرة مليئة بالأمل.
يصل إلى المدينة الكبرى، يكتري غرفة في حي شعبي، يشاركها أحيانًا مع ثلاثة أو أربعة طلبة، يعيش على مساعدات بسيطة من والده الفلاح، أو أمه الأرملة.
يستيقظ باكرًا، يمشي كيلومترات إلى الجامعة، يجلس في مدرج مكتظ، يستمع بإرهاق، يسهر الليالي في المكتبات، يحلم فقط بفرصة لماستر… ويفاجأ أن مقاعده قد تم توزيعها في مقاهي النخبة قبل حتى أن تُنشر النتائج.
وأنا، كاتب هذه السطور، كنت أحد أولئك الطلبة.
درست القانون بكل جد، وراودني الحلم بأن أُكمل دراستي وأصبح إطارًا في بلدي. لكنني، كغيري، اصطدمت بجدار المحسوبية والزبونية.
فاخترت أن أبحث عن باب آخر.
اشتغلت في مجال السياحة، وانطلقت من الصفر، ثم تمكّنت من مغادرة البلاد… لا بفضل الحظ وحده، بل بدعوات والديّ، ومساندة إخوتي الذين لم يتخلّوا عني.
أما زملائي؟ بعضهم يعمل الآن في المقاهي، وآخرون على الأرصفة، وآخرون في مهن بعيدة كل البعد عن تكوينهم الجامعي.
وآخرون فقدوا عقولهم من كثرة الضغوط والخذلان.
وآخرون ابتلعتهم مياه البحر وهم يحاولون الوصول إلى الضفة الأخرى، هربًا من واقع لم يترك لهم خيارًا.
وآخرون اختاروا طريق تركيا كملاذ أخير للوصول إلى أوروبا، يركضون خلف أمل لا يعرفون إن كان حقيقيًا أم مجرد سراب.
وآخرون… قُتلوا داخل الحرم الجامعي نفسه، فقط لأنهم وُجدوا في المكان الخطأ أثناء صراع عبثي بين الفصائل الطلابية.
المنظومة ببساطة خذلتهم.
وإن كنا سنتحدث عن الجامعة، فكيف نتجاهل واقع الترهيب الذي يعيشه الطلبة داخل الحرم؟
كم من طالب ضُرب أو أُهين أو كُسرت عظامه بسبب صراعات بين الفصائل؟
كم من طالبة حرمت من الدراسة بسبب خوفها من المشاحنات والانفلاتات الأمنية؟
الجامعة لم تعد مكانًا آمنًا… صارت في أحيان كثيرة “منطقة خطر”، يدخلها الطالب وهو ينظر خلفه، لا لأنه خائف من الفشل، بل لأنه خائف على حياته.
وهنا، يجب أن نطرح الأسئلة الحقيقية:
أين الدولة من كل هذا؟
هل ستكتفي بمحاكمة أستاذ واحد وتغلق الملف؟
هل ستُسحب الشهادات التي مُنحت بطرق مشبوهة؟
هل ستُفتح ملفات أخرى في جامعات مختلفة، حيث الشبهات كثيرة، والروائح تزكم الأنوف؟
وهل سنرى يومًا مسؤولًا كبيرًا يُحاسَب، أو عميدًا يُقال، أو منسق ماستر يُمنع من التعليم بعد ثبوت تورطه؟
نحن لا نحقد على أحد، نحن فقط نريد العدالة.
نريد أن نؤمن أن التعب يُكافَأ، وأن الشهادة لها وزن، وأن الجامعة ليست حقل تجارب سياسي أو سوقًا سوداء.
نحن نكتب هذا لأننا ما زلنا نؤمن ببلدنا… لكن الإيمان لا يكفي، لا بد أن تتحرك الدولة، أن تستمع لنبض الطلاب، أن تفتح حوارًا حقيقيًا لإصلاح التعليم، قبل أن يُصبح الحلم بالعلم… مجرد وهم.
تعليقات
إرسال تعليق