في زمن الفراغ ومجتمع تحتضر فيه الأخلاق
،
نحن لا نعيش أزمة أخلاق فقط، بل نعيش انهيارًا شاملًا للمعنى مجتمع اليوم لم يعد فقط متفكك الروابط، بل مُفرغًا من كل ما يمنح الإنسان اتجاهًا وقيمة، التقدم التقني، والوفرة المادية، والانفتاح الرقمي، لم تفعل شيئًا سوى تكريس العزلة وتضخيم الشعور باللاجدوى، وكأننا نعيد إنتاج تجربة Univers 25 الشهيرة، التي وفرت كل شروط الراحة لفئرانها، فماتت مكتئبة، من دون تهديد خارجي، من دون جوع أو فقر، فقط من وفرة بلا هدف
ابن خلدون أشار منذ قرون إلى أن الحضارات لا تنهار من الخارج، بل من الداخل، حين تتآكل القيم، وتنحل الروابط، وتتفكك العصبيات التي تشد المجتمع بعضه إلى بعض، ما نعيشه اليوم هو صورة حديثة لهذا الانهيار البطيء
أمام أعيننا، ينقلب ميزان التربية، طالب يعتقد أن الحب يُنتزع بالقوة، فيقتل أستاذته لأنها رفضته، في مأساة تفضح غياب أي نظام قيمي في داخله، آخر يعتدي على أستاذه أمام الجميع، ثم يُستقبل في المدرسة كبطل، في مشهد عبثي يُجرد التعليم من هيبته، ويُكرس ثقافة العنف والاحتقار بدل الاحترام والمسؤولية
الإعلام، بدوره، لم يكن بريئًا، نرى برامج هزلية تُقدَّم فيها الأسرة كمساحة للتهكم، زوجة تسخر من زوجها وتُذله، تكره حماتها وتسعى للتخلص منها، وتحوِّل العلاقة الزوجية إلى لعبة مصالح وانتقام، هذه الصورة المُبتذلة تُعرض باسم الضحك، لكنها في العمق تزرع مفاهيم جديدة تُفكّك الأسرة من الداخل
في الشارع، أصبح حمل السلاح الأبيض مشهدًا مألوفًا، لا للضرورة، بل لإثبات الذات، شباب يعتدون ويسرقون بلا تردد، في ظل غياب الردع، وغياب القدوة، وغياب التربية، وكأن المجتمع صار هو الآخر متواطئًا، مكتفيًا بالمشاهدة الصامتة
لكن خلف كل هذا الخراب، توجد منظومة، الكاتبة نعومي كلاين، في كتابها The Shock Doctrine، تشرح كيف تُستخدم الأزمات والانهيارات الاجتماعية والاقتصادية كوسيلة لإعادة تشكيل المجتمعات وفق مصالح قوى معينة، يتم خلق الفوضى أولًا، ثم يُقدَّم المنقذ الوهمي، الذي لا يأتي ليبني، بل ليُحكم قبضته، هل ما نراه اليوم من تخريب ممنهج لقيم الأسرة، والتعليم، والإعلام، والهوية، مجرد مصادفة؟ أم أن هناك من يسعى لخلق مجتمع مُشوَّه، يسهل التحكم فيه؟
في ظل هذا الخراب، لا يكفي أن نُدين الواقع، بل يجب أن نبدأ البناء، لا بناء الحجر، بل بناء الإنسان، إعادة الاعتبار للأسرة كمؤسسة تربوية مقدسة، للمدرسة كمصنع للقيم لا للحفظ فقط، وللمجتمع كنسيج حيّ يحتاج إلى رعاية، لا إلى إهمال، لا بد من مشروع جماعي، نُربّي فيه أبناءنا على احترام الآخر، على الانتماء، على الحُب الذي لا يُنتزع بالعنف، بل يُزرع باللطف
كما قال ألبير كامو: “ما معنى الحياة في عالم لا معنى له؟”، فالجواب ليس في الصمت، بل في الفعل، علينا أن نُعيد خلق المعنى، أن نُعلّم أبناءنا أن النجاح ليس شهرة فارغة، ولا سلطة مفروضة، بل قدرة على التأثير، على بناء الذات، على حمل الرسالة
لقد حان الوقت لننقذ الإنسان من هذا السقوط الحر، فالمجتمع الذي يموت فيه الاحترام، ويُهان فيه المُعلم، ويُضحك فيه على الأب، ويُستبدل فيه الحب بالقوة، هو مجتمع على حافة الهاوية، وإذا لم نبدأ الآن، فقد نستيقظ غدًا في مدينةٍ بلا روح، تشبه تمامًا “جنة الفئران”، حيث لا أحد يعرف لماذا يعيش، ولا إلى أين يذهب.
تعليقات
إرسال تعليق