لماذا الفقر ؟




لعل السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا دوماً هو: ما هو الفقر؟ كيفية القضاء عليه؟ هل يمكن محو الفقر من العالم؟ هذا هو السؤال الأصعب.

منذ العصور ما قبل التاريخ، يتضح أنه لا أساس للفقر في ظل مجتمعات تعتمد على الصيد، فلا يمكن لنا تحديد الفقير من الغني، فالجميع متساوون إلى حد ما. آنذاك كان يعتمد على الصيد أو ما يسمى بمرحلة "القليل من الجهد والكثير من الغذاء"، إلا أن هذا النظام كان غير آمن. توالت العصور ليحس الإنسان بالفقر لأول مرة مع تغير المناخ في "العصر الجليدي"، حيث الفقر من الغذاء والدواء. تقدم العالم بعدها وظهرت "الحضارة المصرية الفرعونية، الإنكا، المايا، نوميديا"، والتي كانت تعتمد على الزراعة كأساس لسد حاجيات المجتمع، فكان الجميع فقيراً ماعدا الملوك.

الفقر هنا كان يتمثل في انعدام الاحتياجات كونها لم تكن متاحة للجميع، وكان سن الوفاة آنذاك هو 35 سنة على الأقل. سادت المجاعة في المجتمع، ما أدى إلى وفاة العديد من الفقراء. 

أول جدال عن الفقر كان في العصر اليوناني، حيث شهدت أثينا مسرحية "إلاه الفقر". كانت قصة هذه المسرحية تدور حول شخصين من أثينا نظرا إلى العالم وظنا أن هناك شيئاً ما خاطئاً: كيف سيتم القضاء على الفقر وكيف سيتم طرده بعيداً عن أثينا؟ إلا أنهم خلصوا إلى أنه لا يمكن القضاء على الفقر، فهو ما يجعل نبلائهم أكثر ثراءً، فالفقر لا يمكن تجاوزه فهو الذي يجعل العالم يتقدم.

ظهرت الأديان بكل تلاوينها محاولة احتواء الفقر وتقديم حلول لتجاوزه، لتفرض بعدها الضرائب على الأغنياء إما لأجل الفقراء أو النبلاء:
- الإسلام: "صدقة واحدة تمحو 70 سيئة".
- المسيحية: في الكتاب المقدس، يحث يسوع على مساعدة الفقراء ويقول: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات".
- البوذية: "الحكيم والسعيد بالإحسان يصبح سعيداً في الآخرة".
- اليهودية: تنص التوراة على أهمية مساعدة الفقراء وإعانتهم.
- الهندوسية: تعاليمها تركز على الكرم والإحسان للفقراء، حيث يعتبر "الدانا" أو العطاء فريضة دينية.

تقدم العالم وتطور، وبرزت معه المدن، لكن الفقر لم يتقلص بل ارتفعت نسبته. كان العديد من الناس ينامون في العراء ويفترشون الأرض، ليمتهن العديد منهم التسول. بات التسول مهنة يمتهنها الرهبان، وظهرت طوائف دينية تقلد سلوك الفقراء لتعميق جراح الفقراء، وهي ما سميت بالرهبنة "الفرنسيسكانية" و"الدومنيكانية" التي اعتبرت التسول تعبيراً عن التقوى والزهد.

لماذا الفقر؟ سؤال يصعب الإجابة عنه. يمكن القول أنه نتيجة النهب كما حدث لحضارتي الإنكا والمايا من نهب وتهجير من طرف الاحتلال الإسباني الذي بنى أساساته على تفقير الآخرين.

في إفريقيا، وقبل الزحف البرتغالي في نهاية القرن 15، كان الأفارقة رغم بساطة معيشتهم لا يعانون من الفقر، حيث كانت التجارة في أوجها والصناعة كذلك، خاصة صناعة النسيج. مع الاحتلال والزحف الأوروبي نحو إفريقيا وغيرها، شهد العالم مجاعة تسببت بقتل العديد من البشر.

تطور العالم وبرزت معه المدن الصناعية "الثورة الصناعية"، لتعميق جراح الفقراء حيث ساد الفقر والقهر بأشكال متعددة. بات على الفرد العمل لساعات طويلة لسد حاجياته، ناهيك عن تشغيل الأطفال وانعدام الحقوق، ليكون التسول مصيرهم، إلى جانب بائعات الهوى وغيرهن. مع تلك المعاناة، ابتكر البعض طريقة لمساعدة الفقراء: "الإصلاحيات" أو ما يسمى "بيت العمل"، يحج إليها الفقراء. توالت بعدها مجموعة من النظريات لفك لغز "كيفية القضاء على الفقر"، مع كارل ماركس مؤسس الشيوعية الذي دافع دائماً عن الطبقة الكادحة "الطبقة العمالية" ضد الرأسمالية، بتحريضه الطبقة الكادحة على الثورة ضد الطبقات الحاكمة. أحسن مثال لتلك الثورة هو "أنطونيو كونسيليرو"، ومازال جبل البرازيل يحتفظ بتمثاله. دون أن ننسى "ماو" و"غاندي" وغيرهم ممن ساهموا في تقديم حلول للفقر.

عمت الاحتجاجات العالم، والمناهضة للاستبداد، من أجل رفع الأجور وتحسين وضعية الفقراء. تحسنت وضعية الفقراء قليلاً وإن كان نسبياً من طرف الفقراء أنفسهم، فرغم الحروب العالمية الأولى والثانية التي عمقت جروح الفقراء، إلا أنها سرعان ما تم تجاوزها بالانتقال من المالية التقليدية نحو المالية الحديثة. انتقلت الدولة من دولة دركية مراقبة غير تدخلية إلى دولة تدخلية في مجموعة من القطاعات، بفرض المزيد من الضرائب قصد تحسين الظروف، لتنخفض نسبة الفقر مع الحركات الثورية، والتقدم العلمي، والتكنولوجي، والزراعي، لتكون البلدان أكثر ثراءً من ذي قبل. لكن هذا الثراء دائماً ما يكون على حساب تفقير البلدان الأخرى، وهو ما أتى به المشروع الإمبريالي الأوروبي الذي أسس على حساب فقر البلدان الإفريقية والآسيوية، فلم تكن فقيرة قبلها ولكن تم تفقيرها غصباً بحجة الحماية. كان يتم استغلال الأفارقة في مناجم الذهب بسيادة سياسة الأبارتايد، إلا أنه مع تقدم العالم والقضاء على العنصرية مع هبوب رياح الحرية، ظهرت أعلام جديدة وقوميات جديدة:
- الهند سنة 1947.
- جنوب إفريقيا سنة 1957.

مع ميلاد الأمم المتحدة، أصبحت مجموعة من الدول أعضاء بها، لتعترف بعدها الدول الغنية أخيراً بضرورة مساعدة الدول الفقيرة، خاصة في الستينيات والخمسينيات من القرن الماضي. لكن هذه السياسة جاءت على أساس نهب المزيد من الأموال، وإن كان على حساب بلدان فقيرة. تم بناء مصانع لإنتاج الزراعة واستغلال خيرات تلك البلدان، ومنحها الكثير من القروض على أساس تلك المشاريع، لكن عندما لا يتم ردها يتم استغلال تلك الدول كيفما تشاء. تسبب ذلك في عزل العديد من الرؤساء ونشوب حروب أهلية، خاصة حرب غانا والصومال، وهذا هو الفقر بمفهومه الحديث. أصيبت العديد من هذه الدول بمجموعة من الأوبئة فضلاً عن المجاعة. للهروب من هذه البلدان، اضطر العديد من الأفراد إلى سلوك طريق البحر وركوب قوارب الموت هروباً من القتل والتقتيل والمجاعة، ليواجهوا الموت في أعماق البحار، وهو ما راح ضحيته العديد من الأشخاص.

لقد تناول العديد من الكتب والمفكرين موضوع الفقر، مثل:
- "رأس المال" لكارل ماركس، الذي تناول فيه تحليل النظام الرأسمالي وتأثيره على الطبقة العاملة.
- "ثروة الأمم" لآدم سميث، الذي ناقش فيه أسباب الفقر والثراء في الأمم المختلفة.
- "البؤساء" لفيكتور هوجو، الذي قدم صورة مؤثرة عن الفقر في فرنسا القرن التاسع عشر.
- "الغجر والنساء" لجورج أورويل، الذي وثق فيه تجربته مع الفقر في لندن وباريس.
  
ما العمل إذن؟ ما هو الحل للقضاء على الفقر في ظل تقدم العالم وانعدام المساواة، ليزداد الأغنياء أكثر ثراءً والفقراء أكثر فقراً؟ ما هو الحل يا ترى؟ سؤال لم ينل الإجابة بعد.

زكرياء تيشوة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حين يدفع الهامش الثمن: الهوة بين مغرب النافع والمغرب العميق تزداد اتساعاً

إلى كل من يتجرأ على تشويه نضال الأمازيغ الأحرار ويشكك في وطنيتهم

حين يصبح القمع جوابًا: الشباب المغربي بين الهجرة وقمع الحريات